كرة اليد في تونس ليست مجرد رياضة، بل هي شغف وطني تحول إلى رمز للانضباط والمرونة والفخر الجماعي. فبعد إدخالها خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية في أوائل القرن العشرين، سرعان ما وجدت بيئة خصبة في المدارس والنوادي الشبابية التونسية. وبحلول حصول تونس على استقلالها عام 1956، كانت الرياضة قد ترسخت بالفعل في الوعي الوطني. تأسس الاتحاد التونسي لكرة اليد في العام نفسه، ليضع الأساس لبيئة منظمة وتنافسية ترعى أجيالاً من الرياضيين. ازدهرت شعبية الرياضة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بالتزامن مع استثمار تونس الأوسع في تنمية الشباب والتربية البدنية. أصبحت كرة اليد عنصراً أساسياً في المناهج الدراسية والأندية الرياضية المحلية، وخاصة في مدن مثل تونس وصفاقس والحمامات. وقد لاقت سرعة اللعبة وعمقها الاستراتيجي وتركيزها على العمل الجماعي صدىً كبيراً لدى التونسيين الذين يتميزون بقيم الوحدة والعزيمة. وعلى مر العقود، تطورت كرة اليد لتصبح ثاني رياضة وطنية في تونس، بعد كرة القدم من حيث المشاركة والحماس الجماهيري. ويتم الاحتفاء بها ليس فقط لروحها التنافسية، بل لدورها أيضاً في بناء الشخصية، وتعزيز روح المجتمع، وإبراز الهوية الرياضية التونسية على الساحة الدولية.
قراءة مقترحة
تتشابك التقاليد المحيطة بكرة اليد في تونس بشكل عميق مع النسيج الاجتماعي للبلاد. فقد أصبحت الأندية المحلية مثل الترجي الرياضي التونسي والنادي الإفريقي والنجم الرياضي الساحلي أكثر من مجرد مؤسسات رياضية، فهي معالم ثقافية تحظى بولاء شديد ودعم من جميع الأجيال. وتُعد هذه الأندية بمثابة ميادين لتدريب المواهب الشابة وساحات يُعبر فيها عن الفخر المحلي بشغف كبير. تجذب مباريات نهاية الأسبوع جماهير من جميع الأعمار، حيث تحول الهتافات والطبول واللافتات الصالات الرياضية إلى مسارح مليئة بالمشاعر. كما أن كرة اليد شأن عائلي، حيث يسير العديد من اللاعبين على خطى آبائهم أو أشقائهم الأكبر سناً الذين ارتدوا نفس ألوان النادي من قبل. ويتم تعزيز تقاليد هذه الرياضة من خلال البطولات الإقليمية ودوريات المدارس والبطولات الوطنية التي تحتفي بالمنافسة والروح الرياضية. ويحظى المدربون بالاحترام ليس فقط لذكائهم التكتيكي، بل لدورهم كمرشدين وموجهين أخلاقيين. ويُعد كأس تونس لكرة اليد وكأس السوبر حدثين رئيسيين يجمعان المشجعين من جميع أنحاء البلاد، ويعرضان عمق المواهب وشدة المنافسات. أما خارج الملعب، فتعد كرة اليد مصدراً للقصص والحنين إلى الماضي والتطلعات المستقبلية. ومن الشائع سماع قصص عن المباريات الأسطورية والأهداف الحاسمة في اللحظات الأخيرة والتصديات البطولية التي تتناقلها الأجيال كجزء من التراث الشعبي. تضمن هذه التقاليد أن تبقى كرة اليد جزءًا حيويًا ومتأصلًا في الحياة التونسية، وتربط الماضي بالحاضر والمستقبل من خلال حب مشترك لهذه اللعبة.
تُعد إنجازات تونس في كرة اليد شهادة على تميزها المستمر واستثمارها الاستراتيجي في هذه الرياضة. لقد كان المنتخب الوطني للرجال، المعروف باسم "نسور قرطاج"، قوة مهيمنة في كرة اليد الأفريقية. منذ أول ظهور له في بطولة أفريقيا لكرة اليد للرجال عام 1974، شاركت تونس في 26 نسخة وفازت باللقب 10 مرات رائعة - في أعوام 1974 و1976 و1979 و1994 و1998 و2002 و2006 و2010 و2012 و2018. كما تأهل الفريق لبطولة العالم لكرة اليد للرجال 17 مرة، وكان أفضل أداء له في عام 2005 عندما احتل المركز الرابع، بفارق ضئيل عن منصة التتويج. شاركت تونس في أربع دورات أولمبية، وكان أفضل مركز لها هو المركز الثامن في لندن 2012. على صعيد السيدات، حقق المنتخب الوطني أيضًا تقدمًا ملحوظًا، حيث شارك في العديد من البطولات الأفريقية وحقق مراكز متقدمة، وإن كان ذلك بوتيرة أقل انتظامًا من الرجال. على المستوى المحلي، يُعد الدوري التونسي لكرة اليد من أكثر الدوريات تنافسية في أفريقيا والعالم العربي، ويتميز بمنافسات شرسة ومستوى عالٍ من اللعب. فازت أندية مثل الترجي الرياضي التونسي والنادي الأفريقي بالعديد من الألقاب الوطنية ومثلت تونس في المسابقات القارية، وغالبًا ما وصلت إلى المراحل النهائية. أصبح لاعبون مثل عصام تاج، الذي يحمل الرقم القياسي لأكثر عدد من المشاركات مع المنتخب الوطني (316 مباراة)، وأسامة بوغانمي، الهداف التاريخي برصيد أكثر من 850 هدفًا، أسماءً معروفة. لا تعكس هذه الإحصائيات فقط التألق الفردي، بل تعكس أيضًا نظامًا ينتج باستمرار مواهب عالمية المستوى ويتنافس بامتياز على الساحة العالمية.
يتشكل مستقبل كرة اليد في تونس من مزيج من التقاليد والابتكار والرؤية الاستراتيجية. تعمل أكاديميات الشباب في جميع أنحاء البلاد على تحديد ورعاية المواهب منذ سن مبكرة، مع التركيز على المهارات الفنية واللياقة البدنية والمرونة النفسية. يواصل الاتحاد التونسي لكرة اليد الاستثمار في تعليم المدربين وتطوير الحكام والشراكات الدولية لرفع مستوى اللعب. تُستخدم المنصات الرقمية لتحليل الأداء، واستكشاف المنافسين، والتواصل مع الجماهير، مما يعكس نهجًا حديثًا في إدارة الرياضة. كما يتزايد الاهتمام بكرة اليد النسائية، مع إطلاق مبادرات جديدة تهدف إلى زيادة المشاركة والظهور وتوفير فرص تنافسية أكبر. ويعزز استضافة تونس للبطولات الإقليمية ومشاركتها في الدبلوماسية الدولية لكرة اليد مكانتها كدولة رائدة في هذه الرياضة. وبينما تواجه البلاد تحديات العولمة وتغير اهتمامات الشباب، تظل كرة اليد أداة فعالة للتماسك الاجتماعي والفخر الوطني والتنمية الشخصية. فهي تُعلّم الانضباط، وتُعزز العمل الجماعي، وتوفر طريقًا للتميز يتجاوز الحواجز الاجتماعية والاقتصادية. سواء في ملعب مكتظ بالجماهير أو في ساحة مدرسة ترابية، يبقى صوت الكرة المرتدة وإيقاع الحركات المنسقة مصدر إلهام دائم. كرة اليد في تونس لا تقتصر على البقاء فحسب، بل هي في تطور مستمر، مدفوعة بشغف عميق وطموح جماعي للوصول إلى آفاق أوسع.
